.. السكان في الوطن العربي
"صندوق الأمم المتحدة للسكان"
خلفيه تاريخية
يعتبر الوطن العربي مهد الحضارات، وشاهد على قيام الممالك بدءاً بمملكة سباً في اليمن. وقد أدت الهجرات التي أملت عليها ندرة المياه والجفاف إلى انتقال السكان على طول البحر الأحمر إلى شمال الجزيرة العربية والشمال الإفريقي، وجنوباً إلى بحر العرب وشرق إفريقيا وجنوب شرق إفريقيا ثمّ صعوداً إلى الخليج.
وقد أسس البابليون في العراق، والفراعنة في مصر حضارات عريقة في المنطقة استطاعت لأْْمد بعيد لعب دور هام وبارز في تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة، إلى أن توالت على المنطقة حضارات الإغريق، والرومان، والأنباط. وفي هذه الأثناء تمكنت ممالك عربية صغيرة بقوة محدودة من الظهور في الفترة الواقعة بين الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية؛ معلنة ظهور الدولة الإسلامية التي استطاعت ضم وتوحيد المنطقة بأسرها، وممتدة في كل الاتجاهات شمالاً وغرباً إلى أوروبا، وجنوبا إلى أفريقيا وجنوب شرق آسيا.
وتحت لواء الإسلام الذي نصّت تعاليمه على نشر العلم، وحثّ على تعليم الذكور والإناث على حدّ سواء؛ استطاع المسلمون ومن كان تحت لوائهم وكافة سكان المنطقة من غير المسلمين إحداث نهضة في مجال الآداب، العلوم الإنسانية الطب، الجراحة، البصريات، الملاحة، الكيمياء، الفيزياء، الجبر، العلوم، والتكنولوجيا. واستطاع الوطن العربي عبر طريق الحرير أن يسيّر تجارة رائجة في الفكر والعلوم، وشكل حلقة وصل بين حضارات آسيا وإفريقيا وأوروبا.
يبلغ عدد سكان الوطن العربي حالياّ حوالي (287) مليون نسمة، بما يشكّل (5%) من إجمالي سكان العالم. ويمكن القول أن كافة أقطاره متشابهة اجتماعياّ، لغوياّ، وديموغرافياّ، ويضم عموماّ معدلات زواج مرتفعه، وزواج مبكر يليه حمل مباشر وغير متباعد؛ مما يزيد ارتفاع معدلات الزيادة السكانية، وزيادة في معدلات الشباب؛ الأمر الذي يقود إلى زيادة الأعباء والتبعية والاتكال، وشيوع الأمية خاصة بين النساء في الوطن العربي، وانتشار فقر الدم الناتج عن الحمل المبكر والمتكرر، نقص الحديد، سوء التغذية، ونقص البروتين هي عناصر يعزى أسباب تزايدها إلى: " الزواج المبكر- الحمل المباشر بعد الزواج – عدم المباعدة بين فترات الحمل – فقر الدم "والتي تؤدي بالتالي إلى " استنزاف صحة الأمهات ـ الإجهاض العفوي ـ ولادة غير مكتملة "، أو قد يتسبب بمواليد أوزانهم دون المعدل ( التقزّم والنحول)، أو بطيئي النمو. وهذا بالتالي يقود إلى ازدياد نسبة الأمراض بين الأمهات والمواليد والأطفال " مثل الأمراض والإصابات المتعلقة بالحمل والولادة ".
هناك أيضاّ اختلافات متباينة واضحة بين السكان في الدول العربية، وبين الدول نفسها والمتمثلـة في مستويات التطور، المدنية، البطالة، الدخل القومي، التوزيع السكاني ومعدلات النمو. بالإضافة إلى اختلاف الدول وتباينها في وعيها وإدراكها للمشاكل السكانية، والسياسات والإستراتيجيات السكانية التي تحتاجها لتحديد مشاكلها السكانية، وحل الأمور العالقة من أجل إحراز تطور مستدام، ويمدّه بأسباب الحياة والتطور.
عام 1973 فسّر "عبد الرحيم عمران" التحولات الديموغرافيّة في الوطن العربي من خلال نظريته في علم الأوبئة الانتقالي؛ حيث اعتبر أن الوفاة هي العامل الرئيسي للتحول والتغير السكاني، بينما اعتبر أن المواليد والتزايد السكاني العامل المعدّل. ويعتبر عمران أن مسألة السكان تمرّ بثلاثة أطوار خلال فترة التحوّل من المعدلات المرتفعة إلى المتدنية للوفيات والمواليد وهي:
1ـ طور المجاعة والآفات والأمراض الوبائيّة : حيث تنقلب معدلات الوفيات والمواليد إلى أعلى درجاتهـا نتيجـة الوباء المتكرّر الناجم عن الطبيعـة، الحروب المدنيـّة ونقص الموارد؛ الأمر الذي يؤدي إلى انتشار الوباء والعدوى والمجاعة، وتدني مستوى المعيشة، وتوقعات لأعمار قصيرة الأمد تدوم لثلاثين أو أربعين عاماّ فقط. هذا، والمثال الحالي لهذا النمـط الحياتي هم سكان العراق ( بسبب الحصار والعقوبات المفروضة)، والصومال حيث تفقد هذه الشعوب أطفالها الذين هم دون سن الخامسة بسبب نقص الغذاء والدواء. ومن يحيا منهم يبقى مهدداّ بعواقب ونتائج على المدى الطويل، كتوقف النمو أو الموت المفاجيء؛ الأمر الذي يترك أثره على الحياة بصحة جيده، وقدرات تعليمية في المستقبل.
2ـ طور التراجع الوبائي : وهي الفترة اللاحقة التي تعتمد على توافر الخدمات الصحيّة المتضمنة الأدوية الوقائية كاللقاحات، وتحسين التغذية خاصة للنساء والأطفال ؛ الأمر الذي من شأنه أن يسارع بتقليص معدلات الوفيات ، في الوقت الذي تصل فيه معدلات المواليد إلى أعلى مستوياتها أو تتضاعف مؤقتاّ. ونتيجة لذلك، فإن فرص وتوقعات الأعمار سوف تتحسّن وتتراوح ما بين خمسين عاماّ إلى ما يزيد على ستين عاماّ، بالمقارنة مع ثلاثين أو أربعين عاماّ المتوقعة بسبب المجاعة والآفات. وسوف يزداد بالتالي معدل النمو السكاني. يمكن القول أن العديد من الدول العربية قد تجاوزت هذه المرحلة إلى المرحلة التي تليها.
3ـ طور الأمراض بفعل الإنسان : والتي تنشأ بتزايد العمر والتطور الصناعي مثل أمراض الشرايين والضغط وما يرافقه من أمراض، الإصابات بالإشعاعات، السرطان الناتج عن المواد المضافـة والحافظة للأطعمة، تدمير البيئة وتعريضها للتلوث الكيميائي والصناعي؛ الأمر الذي يستحث الجينات على التحوّل والتغيّر الفجائي؛ ممّا يحدث مواليد جدد مختلفة عن الأبوين. معدلات الخصوبة نسبيّاً متدنيّة في هذا الطور، ويستمر النمو السكّاني في ازدياد؛ ولكن في مستويات معيشيّة بسيطة. ينطبق هذا الطور حالياً على دول الخليج العربي.
وعادة ما تمرّ المجتمعات بأحد الأطوار الثلاثة التي سبق ذكرها أثناء تحوّلها الديموغرافي، وتتفاوت فيما بينها بسرعة هذا التحوّل؛ ممّا يجعل كل مجتمع يحتلّ مرتبة مختلفة. وبناءّ عليه، يمكن استنباط هذه النماذج السائدة التالية :
1ـ النموذج التقليدي : والذي رافق الثورة الصناعية في أوروبا، وامتدّ عبر فترة زمنية طويلة، وأحدث تقليصاً جوهرياً في معدلات الخصوبة والوفيات "خاصة في فرنسا، حيث تناقصت معدلات المواليد التي سبقت تناقص وانحدار معدلات الوفيـات ". وصلت معدلات الوفـاة إلى أقل من 10 لكل ألف شخص، ومعدلات الولادة أقل من 20 لكل ألف شخص.
2ـ النموذج المتسارع : وفيه يصبح التركيز على برامج تنظيم الأسرة جنباً إلى جنب مع الخدمات الصحيّة، الوقائية، والعلاجيّة. فتتناقص تدريجياً معدلات الوفيات والمواليد بنسب سريعة. مثال هذا النموذج اليابان وبلدان شرق أوروبا التي بدأت تميل إلى الإجهاَض المتعمّد وتحثّ عليه.
3ـ النموذج المتأخر" البطيء" : والذي ينطبق حاليّاً في الدول النامية. فمعدّل الوفيات بدأ بالتناقص بعد الحرب العالمية الثانية في الوقت الذي تميّزت فيه معدلات المواليد بالتراجع بعد ذلك بكثير، مع بعض الإستثناءات . وتندرج الدول العربية ضمن هذا النموذج؛ حيث معدلات النمو السكّاني المرتفعة بسبب الفجوة المتزايدة بين معدلات المواليد المرتفعة ومعدلات الوفيات المتدنيّة. إنّ معدلات نمو سكّاني كهذه تفـوق معدلات النمو الاقتصادي، ولا بدّ أن يشكّل فيها النمو السكّاني المتسارع هذا خطراً على المستوى المعيشي للسكّان ؛ الأمر الذي دفع بالدول العربية إلى تبنّي المزيد من السياسات السكانية من أجل إحداث التوازن بين هذا التزايد السكّاني، وتنمية مستدامة، وحماية بيئية